الخميس، 25 سبتمبر 2025

الرخام في مصر: من الفراعنة إلى التدهور المعاصر

الجزء الأول: الرخام عند المصريين القدماء

منذ فجر التاريخ، لم يكن الرخام مجرد حجر في عيون المصريين القدماء، بل كان لغة للجمال والخلود. في حضارة بُنيت على الدقة والفن والهندسة، وجد المصريون في الرخام مادة تُخلّد الملوك وتزيّن المعابد وتمنح المقابر هيبة سرمدية.

1. الاكتشاف والاستخدام المبكر

  • أولى إشارات استخدام الرخام تعود إلى الدولة القديمة (حوالي 2700 ق.م)، حيث عُثر على ألواح رخامية في هرم زوسر المدرج بسقارة.

  • استُخدم في التوابيت والأواني الجنائزية التي صاحبت الملوك والنبلاء في مقابرهم.

2. الرخام كرمز للقوة

  • المعابد الكبرى مثل الكرنك والأقصر احتوت على أعمدة وأرضيات رخامية تعكس العظمة.

  • التماثيل الضخمة مثل تمثال أمنحتب الثالث جرى تزيين قواعدها بالرخام.

3. الأرقام والدراسات

  • تقديرات الباحثين الأثريين تشير إلى وجود أكثر من 20 محجرًا نشطًا للرخام والجرانيت في الصحراء الشرقية وأسوان.

  • بعض المحاجر استُخدمت لأكثر من 1000 عام متواصل.


الجزء الثاني: تطور صناعة الرخام حتى القرن العشرين

مع دخول الإغريق والرومان إلى مصر، أصبح الرخام المصري جزءًا من التجارة المتوسطية. فقد حملت السفن أعمدة وألواح رخامية إلى روما وأثينا، لتزيّن قصور الأباطرة.

1. العصر اليوناني والروماني

  • الرخام المصري استُخدم في بناء القصور والمعابد الرومانية، وأبرزها أعمدة معبد كوم الشقافة.

  • الرخام الأحمر من أسوان كان مرغوبًا في أوروبا.

2. العصر القبطي والإسلامي

  • الكنائس القبطية اعتمدت على الرخام في أيقوناتها وجدرانها.

  • المساجد الإسلامية استخدمت الرخام على نطاق واسع: الأعمدة، المحاريب، الأرضيات.

  • جامع السلطان حسن (1356م) يضم أعمال رخامية منقوشة بدقة عالية.

3. العصر العثماني وبدايات النهضة

  • العثمانيون فضلوا استيراد الرخام التركي، مما قلل من استغلال المحاجر المصرية.

  • عهد محمد علي باشا (1805–1849) شهد نهضة صناعية: إعادة فتح المحاجر، استقدام خبراء أجانب، إدخال أدوات حديثة.

4. القرن التاسع عشر وبداية العشرين

  • تأسيس أول ورش للرخام في القاهرة والإسكندرية.

  • قصر عابدين (1863م) مثال واضح على استخدام الرخام المحلي والمستورد.

  • محاولات تصدير محدودة، لكنها فشلت في منافسة الرخام الإيطالي (كارارا).


الجزء الثالث: الصناعة الحديثة من القرن العشرين حتى اليوم

1. تطور المحاجر

  • توسع استغلال محاجر الجلالة والمنيا وسيناء.

  • إدخال السلك الماسي والماكينات الثقيلة في استخراج الرخام.

2. دخول التكنولوجيا

  • منذ السبعينيات، استوردت مصر ماكينات إيطالية وألمانية للقص والصقل.

  • مصانع كبرى في العاشر من رمضان وحلوان.

3. منطقة شق الثعبان

  • أكبر تجمع لصناعة الرخام في مصر (أكثر من 2000 ورشة ومصنع).

  • تغطي 6.5 مليون م² وتنتج مئات الآلاف من الأمتار المربعة سنويًا.

4. الإنتاج والأرقام

  • مصر تنتج بين 5–6 مليون م² سنويًا.

  • صادرات 2020 قُدرت بـ 210 مليون دولار.

  • الوجهات الرئيسية: الصين، السعودية، الإمارات، إيطاليا.

5. الاستخدام المحلي

  • الرخام المصري يغطي أكثر من 60% من المشروعات القومية: العاصمة الإدارية، العلمين الجديدة.

  • انتشار استخدامه في الفنادق والمراكز التجارية الكبرى.

6. التحديات

  • نسبة الهدر تصل إلى 60% من الخام.

  • ضعف التسويق العالمي.

  • اعتماد على بيع الخام بدلًا من المنتجات النهائية.


الجزء الرابع: السوق المحلي والتدهور الإداري

1. الأسباب

  • إدارة فردية غير مؤسسية للمحاجر والمصانع.

  • غياب المواصفات القياسية.

  • إغراق السوق بمنتجات رخيصة ومنخفضة الجودة.

  • غياب التسويق الدولي.

2. النتائج

  • تراجع الأسعار محليًا.

  • فقدان ثقة المستهلك.

  • ارتفاع الواردات من تركيا وإيطاليا.

  • صادرات ضعيفة (200 مليون دولار فقط في 2022 مقابل 2 مليار دولار لتركيا).

3. التأثيرات

  • تسريح العمالة.

  • إغلاق ورش صغيرة.

  • خسارة الدولة لعائدات كبيرة.


الجزء الخامس: الحلول والطرق الاستثمارية

1. إعادة الهيكلة والإدارة

  • تحويل المحاجر إلى شركات مساهمة بدلاً من إدارتها الفردية.

  • وضع تشريعات تُلزم المصانع بالمواصفات القياسية.

2. الاستثمار في التكنولوجيا

  • دعم استيراد أحدث ماكينات القص والصقل.

  • استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التصميم والتصنيع.

3. التسويق وبناء العلامة التجارية

  • إطلاق علامة "Egyptian Marble" عالميًا.

  • المشاركة المنتظمة في معارض مثل فيرونا بإيطاليا.

  • إنشاء منصات رقمية لتسويق الرخام المصري مباشرة.

4. إعادة التدوير والاستدامة

  • استغلال مخلفات الرخام في صناعة الطوب والخرسانة.

  • تطوير صناعات ثانوية مثل "بودرة الرخام" التي تُستخدم في الدهانات والبلاستيك.

5. الاستثمار الأجنبي

  • جذب شركات تركية وإيطالية كشركاء في الإدارة والتسويق.

  • تشجيع الاستثمار الخليجي في المحاجر والمصانع الكبرى.

6. دعم العمالة والتدريب

  • إنشاء معاهد متخصصة لتأهيل فنيين في صناعة الرخام.

  • برامج تدريب مشتركة مع إيطاليا وتركيا.

7. الحلول التمويلية

  • إنشاء صناديق استثمارية حكومية وخاصة لتمويل تطوير المحاجر.

  • منح قروض ميسرة للمصانع الصغيرة لتحديث معداتها.

8. الأهداف المتوقعة إذا نُفذت الحلول

  • رفع الصادرات من 200 مليون دولار إلى 1.5 مليار خلال 10 سنوات.

  • زيادة العمالة المباشرة في القطاع من 50 ألف عامل إلى 150 ألف.

  • تقليل نسبة الهدر من 60% إلى أقل من 20%.


الخاتمة

قصة الرخام في مصر هي قصة حضارة غابرة وإمكانيات حالية ومستقبل واعد. من الفراعنة الذين جعلوه رمزًا للخلود، مرورًا بالعصور اليونانية والإسلامية، وصولًا إلى النهضة الحديثة، ظل الرخام شاهدًا على عظمة مصر. لكن التدهور الحالي ليس قدَرًا محتومًا.

إذا تحولت الإدارة من عقلية فردية إلى مؤسسية، وإذا استُثمرت التكنولوجيا والتسويق والاستدامة، فإن الرخام المصري قادر على أن ينافس تركيا وإيطاليا والهند. بل يمكن أن يتجاوزها، ليصبح علامة عالمية تحمل اسم مصر كما حملته من قبل على جدران المعابد والأهرامات.