الرخام في مصر
الجزء الأول
الرخام في مصر منذ القدماء المصريين حتى نهاية العصور الوسطى
1. المقدمة
منذ آلاف السنين، كانت مصر القديمة مركزًا للحجر بجميع أنواعه: الجرانيت من أسوان، الحجر الجيري من طرة، المرمر من حاتنوب، والرخام المتبلور من وادي الحمامات. لم يكن الحجر مجرد مادة للبناء، بل كان وسيلة للتعبير عن القداسة، ولترسيخ فكرة الخلود عند المصري القديم. الرخام على وجه التحديد، بما يحمله من نعومة وشفافية وانعكاس للضوء، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالممارسات الدينية، بالمقابر الملكية، وبالفنون الرفيعة.
في هذه الدراسة الطويلة، سنتتبع رحلة الرخام في مصر منذ اكتشافه عند المصريين القدماء وحتى العصور الوسطى، موضحين أهميته الاقتصادية، الفنية، والدينية، وكيف كان جزءًا من هوية الحضارة المصرية.
2. الرخام في مصر القديمة: بين الجمال والقداسة
2.1 تعريف الرخام في السياق المصري
-
في العصر الحديث، الرخام هو حجر متحول يتكون من إعادة بلورة كربونات الكالسيوم.
-
لكن المصريين القدماء لم يستخدموا التعريف الجيولوجي الصارم؛ فكل حجر متبلور أملس يعكس الضوء كان يدخل ضمن مفهوم "الرخام".
-
الألباستر المصري (المرمر) كان أشهر الأنواع وأكثرها تقديسًا.
2.2 المحاجر الرئيسية
-
محاجر حاتنوب (المنيا):
-
المصدر الأول للألباستر المصري.
-
استخدم لصناعة أواني القرابين وتوابيت الملوك.
-
ما زالت النقوش في المحاجر تشهد على تنظيم العمال والنقل.
-
-
وادي الحمامات (قنا):
-
من أقدم المحاجر النشطة في العالم.
-
كان مصدرًا رئيسيًا للحجر المتبلور الأخضر والأسود.
-
نُقشت على جدرانه أسماء بعثات ملكية منذ الدولة القديمة حتى العصر الروماني.
-
-
أسوان:
-
اشتهرت بالجرانيت الأحمر، لكن هناك دلائل على وجود أنواع رخامية متبلورة.
-
الأوبليسك الناقص دليل حي على حجم الكتل المستخرجة.
-
-
سيناء والصحراء الشرقية:
-
كانت مصدرًا للأحجار النادرة المستخدمة في الزينة.
-
3. تقنيات الاستخراج والنقل
3.1 أدوات الاستخراج
-
استخدم المصريون القدماء المطارق الحجرية والأزاميل البرونزية.
-
كانت الأوتاد الخشبية تُطرق في الشقوق ثم تُغمر بالماء لتتمدد وتفصل الكتل.
3.2 النقل
-
اعتمدوا على الزلاجات الخشبية المدهونة بالزيوت أو المياه لتقليل الاحتكاك.
-
يُسحب البلوك بالحبال بواسطة مئات العمال.
-
بعض الرسومات الجدارية تُظهر مشاهد نقل تماثيل وأعمدة ضخمة.
4. الاستخدامات الدينية والفنية
4.1 المعابد
-
استُخدم الرخام في تبطين القاعات الداخلية حيث توضع تماثيل الآلهة.
-
الضوء المنعكس عن الرخام أعطى جوًا روحيًا مهيبًا.
4.2 المقابر والتوابيت
-
كثير من التوابيت الملكية كانت مصنوعة من الألباستر.
-
تابوت الملك مرنبتاح مثال بارز.
4.3 الأواني
-
المرمر المصري صُنع منه أوانٍ لحفظ الزيوت المقدسة والدهون العطرية.
4.4 التماثيل
-
بعض تماثيل الآلهة والملوك نُحتت من الرخام المتبلور لمنحها بريقًا خاصًا.
5. العصور الكلاسيكية: اليونانيون والرومان
-
عند دخول الإسكندر الأكبر مصر، بدأ تزاوج ثقافي في العمارة.
-
الرومان استخدموا الرخام المحلي إلى جانب استيراد الرخام الأبيض من إيطاليا.
-
مدينة الإسكندرية كانت مركزًا للرخام المستورد والمصري.
-
المعابد الرومانية في فيلّا أنطونيوس بالإسكندرية زخرفت بأرضيات رخامية متعددة الألوان.
6. العصور الإسلامية: الرخام بين القداسة والزخرفة
6.1 الفاطميون
-
اهتموا باستخدام الرخام في المساجد والقصور.
-
المحاريب الرخامية المزخرفة بالألوان أبرز معالمهم.
6.2 الأيوبيون والمماليك
-
توسع استخدام الرخام في الأرضيات والجدران.
-
تقنيات الأبلق (توظيف ألوان مختلفة من الرخام في زخرفة هندسية) ظهرت بقوة.
-
مسجد السلطان حسن مثال واضح حيث الأرضيات والجدران مزينة برخام متعدد الألوان.
6.3 العثمانيون
-
استمروا على نفس النهج، لكنهم اعتمدوا أيضًا على استيراد الرخام من الأناضول.
7. القيمة الاقتصادية والاجتماعية
-
الرخام كان سلعة نادرة لا يستخدمها إلا الملوك والنبلاء.
-
أصبح جزءًا من التجارة مع البحر المتوسط.
-
في العصر الإسلامي، تحوّل إلى رمز للترف والرقي الاجتماعي.
8. الخاتمة
الرحلة الطويلة للرخام في مصر تكشف عن دوره الأساسي في تشكيل الهوية البصرية والدينية للمجتمع.
-
في مصر القديمة: رمزًا للقداسة والخلود.
-
في العصر الروماني: عنصرًا معماريًا وزخرفيًا.
-
في العصر الإسلامي: مزيجًا من الجمال والروحانية.
لقد ترك المصريون القدماء إرثًا لا يزال حيًا في جدران المساجد والقصور والمعابد، ليظل الرخام شاهدًا على قدرة الإنسان المصري على تحويل الحجر إلى لغة مقدسة وجمالية خالدة.